يطلق على الابتكارات الرقمية التي تعتمد على التقنيات المتقدمة بشكل يومي "التقنيات الناشئة". والتقنيات الناشئة يمكن القول إنها تلك التقنيات التي ينتظر منها أن تحدث التغيير المنشود وابتكار حلول مختلفة وتسريع وتيرة التحول الرقمي بصور مضاعفة عما قبل مثل (إنترنت الأشياء – الذكاء الاصطناعي – تقنيات النانو – الواقع المعزز – الواقع الافتراضي -المرشد اللاسلكي – تقنية سلسلة الكتل "البلوك تشين" Blockchain - الصور المجسمة ثلاثية ورباعية الأبعاد – الترددات الردويه.... الخ).
في الواقع يتطلب تسخير إمكانات التقنيات الناشئة من أجل التنمية المستدامة جهودًا منسقة من الحكومة ممثلة في مؤسساتها المختلفة ومنها كما سنستعرض هنا وزارة الزراعة. يعتبر الدور الذي تلعب الحكومة عن طريق مؤسستها دورًا حاسمًا في خلق بيئة مواتية لنشر التقنيات الناشئة طبقا لما يتلائم مع كل تخصص أو هدف من أهداف الدولة في إطار دفع عجلات التنمية، من خلال الاستثمار في البحث والتطوير، ودعم النظم الإيكولوجية للابتكار، وإنشاء أطر تنظيمية توازن بين الابتكار والسلامة والخصوصية والاهتمامات الأخلاقية.
الناظر الى أحوال الزراعة يجد عديد من الجوانب السلبية التي يعاني منها المزارعون ويمكن عرض بعضها في النقاط التالية:
ضعف خدمات ما بعد الحصاد.
وجود تكرار للإفراط في الإنتاج أو خفضه.
تذبذب أسعار المحاصيل وعوائدها وميلها للانخفاض.
غياب أو صعوبات نقل المعرفة وغياب الدور الإرشادي الناقل للممارسات الزراعية الحديثة والجيدة.
سوء التسويق الزراعي (بمفهومه الشامل والعادل المرتبط بالأسواق وحاجة المستهلكين)، ما يعكس حالة عدم التناسق في القطاع الزراعي بشكل عام.
وفي ظل ما تبذله الدولة من جهود لإعادة تنظيم سلاسل الإمدادات والأمن الغذائي محليا وارتباطها بالسوق العالمي، هناك فرصة كبيرة لتطوير هذا القطاع بجميع مكوناته وعناصره المختلفة باستخدام التقنيات الناشئة، كالذكاء الاصطناعي، تقنية سلسلة الكتل "البلوك تشين" Blockchain، وإنترنت الأشياء. إن المشكلات التي يعانيها العاملون في المجالات الزراعية معروفة جيدا لكنها مستمرة، وتحتاج إلى تطوير وتحسين من خلال الاستفادة من الطبيعة المعززة للتقنيات الناشئة والتي يمكنها حل كثير من هذه المشكلات بالتدخل التقني، وذلك لكسر هذه الحالة الراهنة في المجالات الزراعية المتعددة، النباتية والحيوانية والسمكية.
من خلال الاطلاع على أفضل الممارسات التقنية في المجال الزراعي فانه يمكن اقتراح استخدام التقنيات الناشئة في الزراعة في المجالات التالية:
أولا، استخدام التقنيات الناشئة في مجال مراقبة المحاصيل:
حيث يمكن استخدم أجهزة الاستشعار وتقنية الأنف الإلكتروني E-nose والطائرات المسيرة والأجهزة الأخرى لإنترنت الأشياء، لرصد ومراقبة التربة ومتطلبات المغذيات الإضافية وتوصيف الأمراض والمساهمة في طرح التوصية بشأن التدابير التحسسية اللازمة.
ثانيا، استخدام التقنيات الناشئة في مجال التحليلات الزراعية التنبئية:
وذلك مثل التنبؤ بالطقس، ووقت الزراعة ومواعيد الري والحصاد .... الخ بما في ذلك كل العمليات الزراعية، وذلك باستخدام التعلم الآلي.
ثالثاً، استخدام التقنيات الناشئة في مجال إدارة سلاسل الإمدادات:
وفى الحقيقة يمكن اعتبارها من أكثر المجالات انتشارا، حيث يمكن استخدام “البلوكتشين” ربط المنتجات بهوية المزارع/المزرعة والناقلين والأسواق والمخازن، وإدارة سلسلة التوريد وتخزين بيانات التتبع لعمليات التوريد والتحقق من صحتها من قبل الأطراف المعنية والسماح بإعداد وثائق التفويض، وحل مشكلات عدم تناسق المعلومات، وبالتالي إنشاء سوق للزراعة أكثر اتساعا وأكثر انضباطا. وفى الواقع أطلقت عددا من الشركات العالمية مشروعات تجريبية في العديد من البلدان للاستفادة من التقنيات الناشئة عبر سلسلة القيمة الزراعية، وقد نجح تطبيق هذا النهج في تحقيق زيادة في متوسط عائدات المحاصيل بواقع 30 % لكل هكتار. ومن هذه التجارب على سبيل المثال:
الاستفادة من استخدام تطبيق للذكاء الاصطناعي:
يمكن أن يستخدم تطبيق الذكاء الاصطناعي لتقديم النصائح للمزارعين بخصوص العمليات الزراعية مثل تاريخ الزراعة، وإعداد الأرض، والتسميد القائم على اختبار التربة، وتطبيق سماد المزرعة، ومعالجة البذور، والعمق الأمثل للبذر، وما إلى ذلك من معلومات تسهم في تحقيق زيادة الإنتاجية.
استخدام واجهات برمجة التطبيقات للتعرف البصري:
يمكن الاستفادة بشكل كبير من استخدام الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء: وواجهات برمجة التطبيقات للتعرف البصري كما هو مستخدم في الطائرات المسيرة التجارية لتحليل الصور في الوقت الآني.
الاستفادة من التنبؤ بمخاطر الآفات:
يمكن تحقيق الاستفادة للتنبؤ بمخاطر الآفات من خلال الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي.
استخدام التقنيات الناشئة لبناء مقاييس المحاصيل في المساحات الشاسعة:
يمكن عن طريق استخدام تقنية الاستشعار من بعد من خلال إنشاء شركات ناشئة متخصصة، حيث يتم ذلك باستخدام التصوير عالي الطيف ومسح الليزر ثلاثي الأبعاد، لبناء مقاييس المحاصيل في المساحات الشاسعة.
إنشاء وتطوير منصة للبنية الرقمية التحتية الزراعية:
يمكن أن يتم تحقيق ذلك عن طريق استخدم مستشعرات إنترنت الأشياء، وقواعد البيانات غير الخاصة بإنترنت الأشياء، وصور الأقمار الاصطناعية / الطائرات المسيرة، لجمع ونقل المعلومات الفورية حول محتوى التربة، والرطوبة، والظروف الجوية وغيرها من المؤشرات وتوفير الوصول إلى التعليم الآلي والخدمات الاستشارية للمجتمعات الزراعية وصيد الأسماك.
كل تلك التجارب والاستخدامات المختلفة للبنية الرقمية يمكن تطبيقها واستخدمها في الريف المصري وشركات الاستثمار الكبرى مما يحسن من زيادة الإنتاج وخفض الفقد فيما بعد الحصاد. هذا ويمكن قيام الحكومة بهذه الخدمات بمقابل بسيط يسهم في شراء الأدوات والمعدات اللازمة وصيانتها وإدارتها وضمان استمراريتها. كما يمكن دخول القطاع الخاص في هذه المجالات المستحدثة والمساهمة فيها بشكل استثماري حيث يستطيع المزارع حينها دفع المقابل المادي نتيجة العوائد الإيجابية من مساعدته بهذه التقنيات الناشئة الجديدة.
بعض المقترحات والتدابير التي يمكن وضعها في الاعتبار لزيادة الاستخدام والاستفادة من تطبيق التقنيات الناشئة بمصر:
أولا، تحديد الإطار العام لاستخدامات تطبيقات التقنيات الناشئة:
يجب أولا تحديد إطار عام يمكن من خلاله لاستخدامات تطبيقات التقنيات الناشئة في مجالات الزراعة المختلفة وكذا وضع الخطط اللازمة للتوسع في المجالات الزراعية.
ثانيا، مراجعة المبادئ التوجيهية للخطط والسياسات القائمة:
ويتم ذلك من خلال تحديد الخطط والسياسات ذات الصلة باستعمالات الأراضي ومصادر المياه والشؤون البيئية وإعادة تقويم المبادرات القائمة وإيجاد المعالجات المناسبة للمشكلات عموما.
ثالثا، العمل على إنشاء حزمة رقمية للزراعة موحدة:
وذلك حتى يسمح بالاستخدام الفاعل للتقنيات الناشئة بدلا من المنصات الإلكترونية “المبعثرة” والتي تقدم الخدمات للقطاع الزراعي بشكل عشوائي.
رابعا، إنشاء مركز للبيانات الضخمة على سحابة إلكترونية آمنة:
إن وجود مركز للبيانات الضخمة على سحابة إلكترونية آمنة سوف يسهم في نقل الخبرات والمعرفة داخل القطاع الزراعي وخارجه.
خامسا، تنمية مهارات العاملين في القطاع الزراعي على استخدام والاستفادة من التقنيات الناشئة:
يمكن أن يتم ذلك من خلال التركيز على عمليات التوعية وإرشاد المزارعين بمكونات التقنيات الناشئة، وتبسيطها لهم ودعمهم.
سادسا، تحسين القدرة المؤسسية للقطاع الزراعي:
ويمكن أن يتم ذلك من خلال عدة محاور نذكر منها إعادة هيكلة الكيان الزراعي ومركز البحوث الزراعية وذلك لتشجيع الابتكار والبحث والتطوير، وتشجيع الدعم التخطيطي للتقنيات الناشئة وريادة رواد الأعمال.
سابعا، إنشاء شركة الخدمات الزراعية (Special Purpose Vehicle, SPV):
يمكن تحقيق ما سبق عن طريق إنشاء شركة الخدمات الزراعية على شريطة أن تكون بعيدا عن بيروقراطية القطاع العام- حيث يتم تنفيذ جميع ما سبق كشركة متعددة الأغراض (Special Purpose Vehicle, SPV) وفق الإطار العام وخطط التوسع في استخدام التقنيات والاستفادة من الشركات الحكومية المتخصصة في المجالات التقنية، لإطلاق جهود حقيقية تربط جميع أطراف القطاع الزراعي “الشركات الزراعية الكبرى وصغار المزارعين ومربي الماشية وصيادين الأسماك وجمعيات المنتجين الزراعيين والأسواق والمنافذ والناقلين والمسوقين”. ويمكن مشاركة التعاون الزراعي في إنشاء هذه الشركات أو عن طريق دخول القطاع الخاص لتحقيق المنفعة المشتركة بنظام بيئة أعمال تكاملي وليس تنافسياً أو لتحقيق أرباح على حساب المزارعين وقطاع الزراعة دون منفعة.
أخيرًا وليس آخرًا ... إن رسم خارطة طريق واضحة المعالم بالشكل الذي يساعد على اعتماد التقنيات الناشئة في المجالات الزراعية، بالشكل الذي يمكنها أن توازن بين الطلب المزدوج للاكتفاء والأمن الغذائي من خلال تحقيق معدلات أعلى من الإنتاجية، وتحقيق مستويات دخل مناسبة للمزارعين عن طريق خفض التكلفة والوصول النوعي إلى الأسواق بأسعار عادلة، سيكون حتما إضافة مهمة ومكملة إلى الجهود التي تبذلها الدولة ممثلة في وزارة والزراعة، والرامية إلى تحسين قطاع الزراعة حتى يتم تعظيم الفائدة منه.
ا. د. فوزي محمد أبودنيا ، المدير الأسبق لمعهد بحوث الإنتاج الحيواني – مركز البحوث الزراعية