منذ العصور القديمة، كان الإنسان دائمًا يطرح الأسئلة حول أعماق المحيطات وما تخفيه من أسرار، بين المياه العميقة وهدير الأمواج، تعيش مخلوقات فريدة وضخمة، وعلى رأسها الحوت العنبر، الذي أحاطت به الأساطير والخرافات وجعلت منه وحشًا مرعبًا، ولكن الحقيقة أكثر إثارة وجمالًا عن هذا الكائن البحري الغامض.
الحوت العنبر، المعروف علميًا باسم Physeter macrocephalus، هو أكبر حيوان في فصيلة الحيتان ذوات الأسنان، ويتميز بجسم ضخم ورأس منتفخ يشكل ثلث طوله تقريبًا.
ومن أبرز سمات هذا المخلوق المدهش قدرته الفائقة على الغوص لأعماق تتجاوز الألفين مترًا، والبقاء تحت الماء لمدة ساعة دون الحاجة للتنفس.
ورغم التصور الشائع، فإن الحوت العنبر غير قادر على ابتلاع الإنسان. فعلى الرغم من حجم حنجرته الكبير، فإن ممر الحلق في حوت العنبر لا يتسع إلا لمرور سمك ضخم أو حبار عملاق. يعتمد الحوت على تقنية الترشيح في غذائه، حيث يسمح بمرور الماء والأطعمة الصغيرة عبر شقوق ضيقة، مما يجعل فرصة ابتلاع إنسان أمرًا مستبعدًا.
من الناحية الفسيولوجية، يمتلك الحوت العنبر جهازًا صوتيًا معقدًا يمكنه من إصدار أصوات تحت الماء تُسمع على بعد عدة كيلومترات. يستخدم هذه الأصوات للتواصل مع أقرانه وللتنقل، ويعتمد على الصدى لاستشعار محيطه. تصل هذه الأصوات إلى مستويات منخفضة جدًا من الترددات (أقل من 20 هيرتز) التي لا يستطيع البشر سماعها.
أما عن تسميته بـ "الحوت العنبر"، فهي تعود إلى مادة العنبر الرمادي التي يُنتجها جهازه الهضمي. تُستخدم هذه المادة في صناعة العطور وتعتبر من الكنوز البحرية التي يسعى جامعوها للحصول عليها. يتم إفراز العنبر نتيجة لتعامل الحوت مع غذائه، وخاصة الحبار، الذي يشكل جزءًا كبيرًا من نظامه الغذائي.
الحوت العنبر لا يقتصر دوره على كونه كائنًا مدهشًا فحسب، بل يلعب أيضًا دورًا بيئيًا مهمًا في المحيطات. فهو يعد مؤشرًا على صحة المحيطات من خلال تغذيته على الحبار العملاق، الذي يعكس التوازن البيئي في المياه. كما يساهم الحوت في تثبيت الكربون من خلال الغوص العميق والعودة إلى السطح، مما يساعد في تبادل العناصر الغذائية بين المياه العميقة والسطحية.